الأربعاء، 20 يونيو 2012

السرية والتخفي كمصدر للذة في التنظيم السري


في مقتبل العمر، في سن المثالية والرومانسية، يلتحق الإنسان الفرد بالجماعة السرية، سياسية كانت أم دينية، بهدف القضاء على الشر الذي يمارسه البشر، وإشاعة الخير العام على الأرض. هو يريد أن يلعب دورا في إنشاء جنة من صنعه على الأرض. هذا ما يعتقده هو على المستوى السطحي من الوعي. غير أن آليات التفكير عند البشر لها روافد بعيدة داخل النفس من الرغبات الحقيقية الغريزية، تمدها بما هى في حاجة إليه من أفكار تبدو مقنعة اجتماعيا للذات وللآخرين، وصالحة في الوقت نفسه لإخفاء هذه الرغبات عن الوعي. وظيفتنا إذن ليست مناقشة الأفكار عند عضو الجماعة السرية بشقيها الديني والسياسي، بل البحث عن دوافعها النفسية البعيدة التي تغيب عنا وعنه. مع العلم بأن هذه الرغبات ليست موضوعة بشكل مرتب على رفوف النفس بل هي تشكل طبقات فوق بعضها البعض، تكشف عن واحدة منها فتظهر على الفور طبقة أخرى تقدم لك تفسيرا آخر أو تمدك بالمزيد من التفسير.

وبإلقاء نظرة سريعة على رفوف النفس ربما تكتشف أن هذا الشاب يلتحق بالجماعة السرية للتخلص من عبء الحرية واتخاذ القرار، هو يريد أن يذوب في جماعة صغيرة محددة، لا يريد أن يتعذب لاتخاذ قرار ما عليه أن يتحمل مسؤولية نتائجه. هناك جهة ما ستتحمل عنه مسؤولية اتخاذ القرار، قد تكون اللجنة المركزية للحزب أو مكتب الإرشاد. هذا الذوبان في الجماعة هو ما يمده بالقوة وتكامل الشخصية بل وتفوقها الكاسح، خاصة عندما يواكب ذلك كله عمل إداري منظم داخل الجماعة يضمن له الخبز والزبد والعسل، وبذلك تنقطع صلته بمجتمعه الأصلي الكبير أو على الأقل تقل احتياجاته إليه إلى أن تصل إلى العدم أو الحد الأدنى. هنا تبدأ خطورة الجماعة السرية على المجتمع الكبير، وهو فقدان الاهتمام الحقيقي بتقدم هذا المجتمع وسلامته وأمنه وقدرته على الإنتاج.

غير أن هذا التفسير لا يضع أيدينا على أكثر العناصر أهمية في حياة البشر وهو مبدأ اللذة. لم يعد من الصعب على أحد أن يدرك أن الإنسان في سلوكه العام يمشي باحثا عما يسبب له اللذة ويبتعد به عن مصادر الألم. الواقع أن هناك مصدرين للّذة في حياة عضو الجماعة السرية تضمنان استمراره وإخلاصه للجماعة وهما التخفّي والسرية، وبذلك تكون العلنية هي التهديد الأعظم الذي يواجه الجماعة السرية.

ربما يبدو صحيحا للوهلة الأولى أن التخفي أو الإخفاء والسرية، وسيلتان لحماية الجماعة السرية من انكشاف أمرها، وهو أمر صحيح إلى حد ما، غير أن الأصح منه أن عضو الجماعة السرية يشعر بلذة خاصة في ممارسته للإخفاء والسرية. وهي تلك اللذة التي اكتشفها من قبل إنسان القبيلة الأولى منذ مئات ألوف السنين وهو يلبد ساكنا بين الأشجار والحشائش يراقب عدوه أو يراقب حيوانا خرج لاصطياده، ثم يتوج هذه اللذة بنجاحه في عملية الصيد والقنص. وهي نفس الفرحة التي سيشعر بها بعد ذلك بنفس العدد من السنين عندما يلبد لك في لجنة الانتخابات ويقتنص صوتك.

كل ألعاب الأطفال تلخص طورا من أطوار البشرية وسلوكها، وهو ما يدفعني للوقوف أمام لعبة شهيرة لكل أطفال الدنيا وهي «الاستغماية» (Hide and seek).. هناك لذة في الاختفاء تقابلها لذة أخرى في كشف هذا الاختفاء. في ستينات القرن الماضي أنشأ جمال عبد الناصر تنظيما سريا داخل الاتحاد الاشتراكي، وكان السؤال المحير للمؤرخين: لماذا ينشئ نظام حكم علني تنظيما سريا إلى جوار تنظيماته السرية الشرعية التي لا يخلو منها أي نظام؟

الإجابة ببساطة هي أن عبد الناصر كان يشعر بحنين شديد لمرحلة التخفي والسرية التي مر بها تنظيم الضباط الأحرار قبل الثورة وما كان يشعر فيها من لذة تعجز كل أفعاله وتشكيلاته السياسية العلنية عن توفيرها له. غير أن قطار الحضارة، بكل إنجازات البشر التكنولوجية والفكرية، مضى في طريقه موسعا من مساحة كل ما هو علني محاصرا كل ما هو مخفي وسري، إلى أن وصل به البشر إلى مساحة يعترف بها الجميع وبضرورة حمايتها وهي الحياة الخاصة للفرد. أما على مستوى الجماعة، وأقصد الدولة على وجه التحديد، فستجد عشرات الأجهزة التي يتطلب عملها الإخفاء والسرية. والتي يستمتع أيضا أفرادها بهذين العنصرين في عملهم إلى الدرجة التي ينحرفون فيها أحيانا عن الهدف الأساسي لوظيفتهم.

إذا كان ما أقوله صحيحا، وهو صحيح عندي على الأقل، يكون تحول التنظيم السري بشقيه الديني والسياسي إلى العلنية هو حديث خرافة. ليس لأن أصحاب التنظيم يرفضون ذلك، ولكن لأنهم عاجزون عن ذلك لما يفرضه من ألم يعجزون عن تحمله. من الممكن بالطبع - تحت ضغط التطورات الاجتماعية والسياسية - أن يصدروا قرارا بأنهم تحولوا إلى حزب سياسي علني وتقليدي، أو أنهم يحتفظون بالجماعة السرية كما هي عليه وينشئون إلى جوارها حزبا مستقلا وليس تابعا للجماعة، ولكن ذلك أيضا حديث خرافة. هذه هي بالضبط مشكلة جماعة الإخوان في مصر في مواجهة مرحلة حاسمة في تاريخ مصر وتاريخ الجماعة.

السؤال هنا: هل يستطيع الناس في الشارع بوسائلهم المحدودة في تحصيل المعرفة، أن يكتشفوا هذه المعاني بسهولة بما يدفعهم لاتخاذ موقف معاكس لما تريد وما تدعو إليه؟

الإجابة هي: نعم.. لسبب بسيط وواضح، عندما تمارس الإخفاء والسرية بما تجلبه من لذة لوقت طويل، تصبح جزءًا لا يتجزأ من آليات التفكير عندك، وهو ما يدفعك للغموض واللف والدوران واستخدام المنطق الصوري الشهير في تزييف الواقع وإخفاء حقيقة ما تفكر فيه وما تعلنه، غير متنبه إلى أن كل مجهودك في اللف والدوران يبدو واضحا أمام المشاهدين للشاشة الصغيرة. الناس ليسوا في حاجة إلى أن يكونوا فلاسفة أو من خبراء الفراسة لاكتشاف أن شخصا ما يخفي عن محدثه حقيقة ما يفكر فيه. وممارسة المنطق الصوري على مثال، كل إنسان حيوان، إذن سقراط حيوان والقطة حيوان وبذلك يكون سقراط قطة.

فإذا جئنا لتطبيقات الحاضر نستمع إلى بعض المناطقة الجدد يقولون: بما أن الشعب اختارنا في الجولة الأولى فمن البديهي أن يختارنا في الجولة الثانية، وإذا لم يحدث ذلك فلا بد أنه قد حدث عن طريق التزوير. وبما أن الشعب المصري ضد التزوير، وبما أننا ندافع عن الشعب المصري، لذلك لن نوافق على نتيجة تصويت الناس في الجولة الثانية عندما تأتي بشخص آخر غيرنا.. هذه هي الديمقراطية، أن نعترض على الديمقراطية ليس معناه أننا ضدها، بل لأننا نؤمن بها.. لأن الديمقراطية هي بربم بربم ترلم لم لم..تيكالم..

ليست هناك تعليقات: