الجمعة، 10 مايو 2013

فصل المقال فيما بين القانون والشريعة من انفصال سيد القمني



أهدي هذا الموضوع إلى باحث كبير وأستاذ قدير وفارس في ميدانه، وإنسان يتمتع بنبل من لون فريد وتكامل نفسي نادر المثال..
إلى الأستاذ الدكتور كمال مغيث..
يقول فقيه الزمان الأستاذ (يوسف قرضاوي) إن الشريعة شأن والقانون الذي يتم تشريعه بالمجالس النيابية البشرية شأن آخر، ويرفض بوضوح تشريعات المجالس البشرية؛ لأنها وضعية ولا يرى تشريعًا صالحًا سوى ما جاءت به الشريعة الإسلامية، ويشرح ذلك في كتابه (الشريعة: ص 28، 29/ طبعة مكتبة وهبة) بقوله: "إن الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون هي من عدة وجوه: الوجه الأول أن القانون من صنع البشر أما الشريعة فمن عند الله، وكل من الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع الشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعف حيلتهم؛ ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل أو ما نسميه التطوير... فالقانون ناقص دائمًا، ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن وصفه بالكمال... أما الشريعة فصانعها هو الله... لا تبديل لكلمات الله... إن الله وضع الشريعة الإسلاميه قانونًا ثابتًا كاملاً لتنظيم الأفراد والجماعات والدول". وهو كلام عليه أكثر من مأخذ وأكثر من ملاحظه.
إن الأستاذ قرضاوي لا شك يعلم أن كلمات الله قد طالها التبديل والنسخ والرفع والمحو والإنساء (ما ننسخ من آيه أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) [106- البقرة]، (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) [101- النحل]، (يمحو الله ما يشاء ويثبت) [39- الرعد]. وهو ما يعني بداية أن القرآن، الذي هو أبو الشريعة ومنبع الدين، قد تغير وتبدل؛ استجابة لمتغيرات الواقع على الأرض زمن الدعوة.
وهو ما يعني أيضًا أن الوحي لم يحاول استكشاف السنوات الـ23 التالية ليضع لها الشريعة الملائمة دفعة واحدة في بداية الدعوة، لتعريف الناس بها جامعة واضحة؛ حتى ينضبط سلوك الصحابة حسب أوامر الشريعة، فقد تتالت الآيات وتواترت منجمة ومفرقة تنسخ بعضها بعضًا وتمحو بعضها بعضًا، وتبدل بعضها بعضًا، وترفع بعضها وتنسى بعضها. 
ورغم علم الأستاذ الفقيه، الذي لا نشك في علمه وفقهه، فإنه يقول في ذات الكتاب (ص 28، 34): "إن القانون قواعد مؤقتة تضعها الجماعة اليوم ومتخلفة عن الجماعة غدًا.. تستوجب التغيير كلما تغيرت الجماعة، لكن الشريعة قواعدها دائمة لا تقبل التغيير والتبديل". بينما صدق القول هو أن قوانين الشريعه ظلت غير معلومة بوضوح للصحابة وللتابعين بشكل محدد كامل قاطع، بل اتضح أنها لم تكتمل يومًا، بدليل الاستكمال الذي تم في العصر العباسي على يد كوكبة الفقهاء، الذين رتب كل منهم أوراق الشريعة وأحكامها على طريقته، وعلى خلاف مع بقية زملائه الذين عاصروه أو سبقوه، وعلى غير انتظام بين المذاهب؛ مما أدى إلى تباعدها واختلاف الأفهام حولها.
لقد استمر تشكيل الأسس الأولى للشريعة على مدى 23 سنة هي عمر الوحي، ولم تكتمل، وقد بدأ عملية الاستكمال الخلفاء الراشدون بقرارات اتخذها كل منهم حسب تقديره وبضميره الشخصي وبحدود فهمه وحسب ظروفه وظروف الواقع في زمنه؛ فأوقفوا حدودًا، وأضافوا حدودًا، وألغوا فروضًا، وحرموا حلالاً، فأوقف عمر تطبيق حد السرقة عام الرمادة، وألغى فريضة إسلاميه مقررة بالأمر المباشر بالقرآن بإلغائه فريضة "المؤلفة قلوبهم"، وحرم متعتين كانتا حلالاً هما متعة الحج ومتعة النساء.
ولم يأت القرن الرابع الهجري حتى تحولت أحكام الشريعة التي تعد على أصابع اليد الواحدة إلى ألوف الأحكام، ووصلت إلى ما يزيد على ثنتي عشرة ألف مسألة، فكانت ماكينة تشريع لا تتوقف ولا تكتمل، فأصبحت أكبر قانون عرفه العالم. ورغم ذلك ظلت الشريعة الإسلامية غير مكتملة، واستمر سيل الفتاوى ينهمر على رءوس المسلمين، حتى وصل -بحسابات دار الإفتاء المصرية- إلى ما يزيد عن ألف فتوى يوميًّا زمن غير المأسوف عليه الأستاذ علي جمعة.
وبعد وفاة النبي تسبب عدم اكتمال الشريعة في ذبح الصحابة والتابعين بعضهم بعضًا في مجازر مخزيه لرتبة الإنسانية؛ لأنها لم تحدد تحديدات قاطعة الأخطاء المطلوب تجنبها والعقوبات المطلوب توقيعها؛ فحدثت الفتنة الكبرى وتبعتها الفتن الأكبر. وقد وقعت الأولى الكارثية زمن الخليفه عثمان، الذي أخذ ما شاء من بيت المال ليوزعه على أهله وأقاربه، وزين حريمه وجواريه بالدر والجوهر والذهب المنهوب من البلاد المفتوحة، وكما يفعل اليوم الرئيس محمد مرسي، وزع عثمان المناصب السيادية على أهله وعشيرته من بني أمية؛ لأنه لم يجد نصًّا يحرم ذلك أو يجرمه ويعاقب عليه، ففعله وهو موقن أنه لا يأتي معصيه ولا يرتكب إثمًا، فقتله الصحابة وأبناء الصحابة وهو على سجادته يصلي ببيته ويقرأ القرآن؛ لأنه لم يعطهم مثلما أعطى أهله وليس لأي سبب ديني؛ لأنه لو أدخلنا الدين سببًا، ولو أخذنا بقول أم المؤمنين عائشه "اقتلوا نعثلاً فقد كفر" لتمت إدانة الخليفة والصحابة معًا.
وكان الأغرب في ذلك الحدث الرهيب أن الذين قتلوا الخليفة لم توقع عليهم أية عقوبة؛ لا لسبب سوى أنهم كانوا صحابة وأبناء صحابة. وظهرت بعدها مسألة تحاول الإجابه على السؤال: هل يعد الخروج على الحاكم (الإمام) حلالاً أم حرامًا، لتنتهي إلى تحريم وتكفير من يخرج على حاكم لم نر منه كفرًا بواحًا. فعبرت الفتنه الكبرى عن وضع الشريعة القاصر وآليات تنفيذها غير المحكمة، واختلافها في تطبيق الحدود حسب الرتبة الاجتماعية بين الصحابة، أو بين الرعية، سيد أو عبد، ذكر أو أنثى، فتفاوتت قرارات الخلفاء الراشدين الأربعة، ولو كانت الشريعة كاملة ما ازدحم التاريخ الإسلامي بصراع الفرق الدموي، وصراع الخلفاء وانقلابهم على بعضهم البعض بحجة الكفر والزيغ عن صحيح الإسلام، واستمر الصراع حتى اليوم دون أن تقدم لنا فرقة واحدة من الفرق ما هو صحيح الإسلام الذي يرضي الجميع لإيقاف عمليات الذبح والجزارة.
 يُفترض في التشريع أن يوجد قبل وقوع الحدث ليكون حاكمًا له وعليه، وليكون معلومًا للناس، دون اختلاف أو تناقض، بما يؤدي لتحقيق العدل عند التطبيق بينما التشريع الإسلامي كان يأتي تاليًا لوقوع الحدث، فكان النبي والصحابة على غير معرفة بالشريعة وقوانينها لمجيئها على دفعات تلغي التالية ما قد سلف، وأوامر ونواهٍ تأتي بغتة عند وقوع  حدث جديد لتنسخ القديم، ومع طريقة جمع المصحف العثماني، الذي اختلط فيه الناسخ بالمنسوخ دون ضابط أو رابط، وصل التضارب بين أحكام الشريعة إلى حد التضارب التام والكامل، فلا تعلم هل نحارب ونقطع كل بنان أم نجنح للسلم؟ وهل التوراة والإنجيل فيهما هدى ونور وفيهما حكم الله، أم هي كتب مُحرفه كفر أهلها فوجب قتالهم؟!
كانت صورة المستقبل في الفترة المكية غير واضحة؛ فمارس النبي الفعل ورد الفعل حسب متغيرات الواقع، فيأتي التشريع بعد وقوع الحدث، ويقوم المسلم أولاً بالفعل، ثم يذهب ليسأل النبي عن حرامه من حلاله، ليقوم النبي بدوره باستخبار جبريل عن القانون الجديد، واستمر هذا الوضع طوال عهد الدعوة وما بعده وحتى اليوم؛ لذلك لا ترى المسلم يضع خططًا مستقبلية؛ فعلم المستقبل عند الله، ولا يعرف النظريات الشاملة كما كان موجودًا من قرون عند المصريين والرافديين، أو كما كان عند أرسطو أفلاطون وسولون وغيرهم. وهو الأمر الذي ظل مؤرقًا للمسلمين حتى اليوم، فيقوم المسلم بالفعل أولاً، ثم يذهب بعده إلى الفقيه ليسأله فيفتي دون أن يكون جبريل مُتاحًا لكل مُفتٍ؛ ومن ثم لم يحمل المسلمون أي نظرية مستقبلية سوى فتح بلاد العالم.
كان الصحابة لا يعرفون ما هو المطلوب منهم غدًا، وهل سيكون حسب شرائع الأمس أم حدثت تغييرات؟ الخمر يوم حلال ويوم حرام، والمتعة يوم حلال ويوم حرام، وحتى اليوم لدى المسلمين سيل تشريعي لا يتوقف، فكان القرآن مُشرعًا أول، ثم أبو بكر مُشرعًا ثانيًا، ثم عمر مُشرعًا ثالثًا، ثم عثمان مُشرعًا رابعًا، ثم عليّ مُشرعًا خامسًا، بل إن قواد الجيوش كانوا يشرعون حسب الموقف، وحسبما يرى عقلهم، كما كان يفعل خالد بن الوليد إبان فتوحه البلدان. كان كل مسئول مشروعًا قانونيًّا مستقلاًّ يختلف عن سابقه وعن لاحقه، وهو ما يضع المُنظر الإخواني فقيه الزمان (الأستاذ قرضاوي) موضع الكذوب الأشر فيما قال عن كمال الشريعة مقارنة بقوانين المجالس النيابية القاصرة والناقصة لتغيرها وتطورها.
الغريب أن يقول قرضاوي قوله القاطع: "ليس هناك فعل لمكلف يمكن القول إنه خارج دائرة الشريعة، فأي عمل يعمله المكلف لا بد أن الشريعه تقول لك هذا حرام وهذا حلال، وهذا فرض أو مستحب أو مكروه.. عندنا فقه اسمه السياسة الشرعية، وفقه العبادات، وفقه الأسرة، وفقه الجرائم والعقوبات، وفقه المواريث، والفقه الدستوري، وفقه العلاقات الدولية، وفقه الجهاد والسلم والحرب (حلقتان بعنوان الدين والسياسة على قناة الجزيرة). وهو نفسه من يقول في كتابه (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده/ ص 167): "وآيات الأحكام التشريعية لا تبلغ عشر آيات في القرآن". 
ولو سألنا عن سبب هذا الاتساع الهائل في شريعة جاءت في عشر آيات إلى مئات ألوف الأحكام؟ يجيبنا قائلاً: "هناك قطعيات في الشريعة والنظم وقطعيات في الأخلاق والآداب، وما عدا القطعيات من أحكام وأنظمة فإنه لم يترك لعبث الأهواء: بل هناك أصول وقواعد أئمة الإسلام في أصول الفقه وأصول الحديث وأصول التفسير" (نفس المصدر).
وهكذا نجد الشريعة لا تزيد عن خمسة أحكام وردت في عشر آيات بينها متكررات، ثم تم الإضافة إليها مئات ألوف الأحكام وضعها أئمة الإسلام، وهم بدورهم لم يكونوا على اتصال بجبريل، فتكون الشريعة والحال كذلك وضعية بشرية. ويكون القانون البشري هو الأكمل والأقدر على حل مشاكل الناس والمُعبر عن الصالح العام للمجتمع؛ لأن المجتمع هو من وضعه لنفسه عن رضا واقتناع عبر نوابه في تصويت شارك فيه الجميع.

يعلن الإسلاميون أن الغرض من السعي لتطبيق الشريعة هو اللجوء لقانون سماوي أصلح بما لا يقارن من قوانين البشر الوضعية التي يتوافقون عليها في مجالس نيابية؛ لأن واضعها هو خالق الخلائق والأدرى بصالح خلقة من أنفسهم، وأن تطبيق الشريعة هو الكفيل بحل مشاكل المجتمع والدولة، اقتصادية كانت أم علمية أم اجتماعية، وإقرار العدل التام بين الناس؛ مما يشيع الأمن والسلام للمجتمع ويتيح لنا التنمية والتقدم، لنتفوق بعون الخالق على كل الأمم ونسود الدنيا بأستاذيتنا للعالم الجهول، بأسطع الأدلة التاريخية زمن الدعوة، عندما تحول البدائيون الأجلاف الحُفاة الرُعاة إلى سادة على العالم القديم وإقامتهم إمبراطورية الخلافة الإسلامية.
فإذا كان هذا صحيحًا فلماذا سقطت دولة الرب الخلافية سقوطها الفضائحي المروع، وانتهت إلى مجرد تاريخ نموذجي للظلم والطغيان والتخلف على كل المستويات، لا أعادها الله ولا ردها؟ 
وإذا كان ادعاؤهم ذلك صحيحًا فسيكون لنا مع تطبيق الشريعة في زماننا أكثر من مشكلة، فأحكام الشريعة كلها عقوبات بدنية، منها: القطع، والسمل، والجلد، والذبح، والرجم، وهتك عرض الإماء ونساء المهزوم، فهل سيسمح لنا عالم الأمم المتحدة ومواثيق جنيف بإقامة ساحات القطع والجلد والرجم..؟!، وفي حال اتخاذ مجلسنا النيابي المتأسلم لقرارات تشريعية حسب الشريعة الإسلامية؛ فهل سيكون ملزمًا للدول الإسلامية الأخرى باعتباره شرعًا ودينًا وعقيدة؟ وماذا سيكون الموقف في حال رفضت تلك الدول ما يصل إليه مجلسنا الموقر؟ وهل سيصح في هذه الحال اعتبار قراره تشريعًا إسلاميًّا دون حصوله على شرط الإجماع؟.
مشكلة من نوع آخر ستواجهنا، وسببها هو بنود الدستور المسلوق بليل من أهل ليل هم الجهل والإعاقة العقلية المنغولية ذاتها، الذين أصروا على الشريعة الإسلامية في المادة الثانية، على مذهب أهل السنة والجماعة في المادة 219 الشارحة، ولطمأنة أهل الكتاب وضعوا مادة ثالثة تتيح للمسيحيين واليهود المصريين الخمسة الباقين بمصر العمل بشرائعهم، والمشكلة هنا أن الدستور الكوميدي أعطى لخمسة مواطنين حق الاحتكام لشرائعهم، وحرم ذات المبدأ على مئات الألوف من الشيعة المصريين بقرار المادة الشارحة بشريعة أهل السنة والجماعة، وعملاً بمبدأ المساواة الذي أقره الدستور الأهطل تتوقف المادة الشارحة ليصبح من حق كافة الفرق الإسلامية العمل بشرائعهم المختلفة عن بعضها والمتباعدة تباعدًا يصل حد التناقض؛ ومن ثم تتعدد الفرق، وتتعدد الشرائع، لنغرق في فوضى تشريعية لا سبب لها سوى الإصرار على التمييز الديني والطائفي، وهو الإصرار الكفيل بإسقاط أي دستور ليصبح هو والعدم واحدًا. ناهيك عن كون مراعاة التشريع لكل مذهب وفرقة هي من المستحيلات؛ لذلك لن يكون هناك حل سوى فرض تشريع واحد وتكفير ما سواه، وهو ما حدث بالفعل في المادة الشارحة، مع هجمة شرسة على كل فرق الشيعة، إثناعشرية أو إسماعيلية أو أباضية، واتهامها بالكفر الصريح، دونما نص قرآني أو حتى حديث نبوي، بل وصل الأمر لمحاولة تفكيك الأزهر وإسقاطه لأنه أشعري المذهب، وهو المذهب الوسطي بين مذاهب أهل السنة والجماعة المطلوبة، لكنهم لا يبغون وسطية، هم يريدون سنّة وجماعة من لون خاص بلون البداوة والقسوة والجلافة، ممثلة في الوهابية التيمية الحنبلية دون غيرها، ودون النص عليه في دستورهم الأغبر.
هذا ما كان عن المشاكل المتعلقة بالشكل، أما المشاكل المتعلقة بالموضوع فهي الأخطر والأفدح؛ لأن تطبيق شرع دين من الأديان أو مذهب من المذاهب شأن لا علاقة له بالدول، إنما هو شرع صالح فقط للقبائل والعشائر البدائية عندما كان لكل قبيلة وفرقة شرعها الخاص، وهو ما يسقط مفهوم المجتمع الجامع ومفهوم الوطن والمواطنة، فلا وجود لمجتمع مع قسمة تمييزية طائفية أو مذهبية أو جنسية؛ ومن ثم لا يكون لدينا وطن، إنما هو "السداح المداح" مع الأهل والعشيرة والقبيلة ذات نفس المذهب؛ ومن ثم تسقط حدود الوطن، ويمكن التنازل عن حلايب وشلاتين للعشيرة الإخوانية السودانية، والتنازل عن سيناء للعشيرة القاعدية النسيبة، فهكذا.. تشريع يعني أنه لا وطن ولا مجتمع ولا مواطنين يتساوون في حقوق المواطنة ويحكمهم قانون واحد؛ لأنها شريعة تقسم المواطنين قبائل وشيعًا وعشائر بدائية يختلفون دينيًّا ومذهبيًّا وذكورة وأنوثة، وكل له حقوق تختلف عن الكل وواجبات تختلف عن الكل. إن دستورنا النغل المولود سفاحًا، ومطلب تطبيق الشريعة، يعود بنا إلى زمن ما قبل قيام الدولة المصرية، إلى زمن ما قبل الأسرات الفرعونية، إلى ما قبل طيب الذكر صاحب العزة الملك المظفر (مينا) موحد القطرين.. ! 
وفي شريعتنا كافة الدلائل التي تؤكد صلاحيتها للنظام القبلي وحده، واستعصائها على التطبيق في منظومة دولة المؤسسات الحديثة؛ ومن ذلك الحديث النبوي في التشريع الجنائي الذي يعود للأصل القبلي اللامجتمعي  الذي يقول: "من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُفدي، وإما أن يقتُل" [رواه الجماعة إلا الترمذي]، وهو ما يضع تطبيق القانون وتنفيذ العدالة بيد أهل القتيل، ويخيّرهم بين أن يقتلوا القاتل أو أن يقبلوا فيه فداء الدية!! دون وجود بالمرة لمفهوم الحق العام للمجتمع، ودون محاكم ومرافعات وسجلات وشرطة وشهود ووقائع، وهذا الحق الاجتماعي العام هو أساس أول للعدل في المجتمعات التي توافقت على العيش في دول، أما في المجتمع القبلي فيجوز وضع حق الحكم والتنفيذ بيد آحاد الأفراد، وهو الحديث المدعوم من حديث آخر يؤكد هذه القبلية ويقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان". وبالطبع لن يرضى المسلم أن يكون ضعيف الإيمان؛ فيكون هو الشاهد، وهو القاضي، وهو الجلاد، دون اعتبار لمعنى المجتمع أو الدولة.
وإن إشاعة التصور بين بسطاء المسلمين أن تطبيق الشريعة سيعمل بآلية فورية سحرية لتحقيق الأمن والسلام هو إفك ضال ومُضل؛ لأن تاريخ مجتمع الشريعة زمن الخلافة الراشدة لم يضمن الأمن للخلفاء أنفسهم، ولا ضمن عدم الصراع بين المسلمين في مجازر مُخزية في فتن كبرى، لم تتوقف حتى استأصلت آل بيت مؤسسها، وذُبح فيها الأطفال من أحفاد النبي، وهُتكت فيها أعراض الأجلة من الصحابة والتابعين.
وإذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ الخلافة الراشدة لتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود في جدوى تطبيق الشريعة، فيروي لنا ابن جرير الطبري في تاريخه: "جاء عمر بن الخطاب إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: رفقة نزلت في ناحية من السوق، خشيت عليهم سُرّاق المدينة، فانطلق بنا نحرسهم"، وهو ما يعني أن مداد الوحي لم يكن قد جف بعد حتى انتشر السُرَّاق في مدينة رسول الله، وأن الشريعة لم تمنع وجودهم، ولم تتمكن من ردعهم عن السطو على الضيوف من تجار، وأنهم كانوا كثرة أوضحها قول عمر: "سُرَّاق المدينة".
وفي زمن خلافة عثمان بن عفان، وقتما وقع الخلاف بينه وبين أم المؤمنين عائشة، التي كانت تنادي المسلمين تحرضهم على قتل الخليفة: "اقتلوا نعثلاً فقد كفر"، يروي الطبري: "أن عثمان قال في رهط من أهل الكوفة استجاروا ببيت السيدة عائشة: أما يجد مُرّاق العراق وفُسَّاقهم إلا بيت عائشة؟ [ج4، ص 477، انظر أيضًا الإمامة والسياسة، ج 8 ص 66]؛ وهو ما يعني أن تطبيق الشريعة لم يضمن عدم مروق الناس من الإسلام، ولم يمنعهم عن الفسق، وأن هؤلاء المارقين والفاسقين كانوا معلومي الأمر من الخليفة نفسه، ولم تنههم صلاتهم ولا صيامهم، ولم يردعهم وجود الشريعة، ولا رفقتهم لأم المؤمنين، ولا وجودهم زمن الخلافة الراشدة عن المروق والفسوق..! 
ولتبرير التلكؤ الإخواني في تطبيق الشريعة، استبق الأستاذ قرضاوي الأمر بقوله عن استلام الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز منصب الحلافة: "إن عمر بن عبد العزيز خاف أن يقيم الشريعة مرة واحدة فيترك الناس الإسلام" (كتابه «ملامح المجتمع المسلم» ص 184)، والمهم بشدة في هذا القول أنه لم تمر سنوات حتى كانت الشريعة قد تعطلت ونسيها المسلمون، بل وأصبحوا يجهلونها، حتى أنها إن طُبقت عليهم خرجوا من الإسلام هربًا منها؟! هذا مع وجود الإسلام بعد طازجًا في خلافة مستتبة وإمبراطورية خلافة قوية..! 
لكن قرضاوي، مثل أي إخواني، يقول في كتاب قول، ليقول في كتاب آخر عكسه، حسب الظروف والهدف المطلوب، فيقول في كتابه الشريعة الإسلامية ص 151: "من الحقائق المسلم بها أن الشريعة الإسلامية قد وسعت العالم الإسلامي كله، على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدد مشكلاته الزمنية.. وأنها ظلت القانون المعمول به في بلاد الإسلام حوالي ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، إلى أن جاء الاستعمار الغربي الذي استبدلها بالتشريعات الوضعية".. !!
فإذا كان ذلك حال العدل والشريعة زمن الخلافة الراشدة، فتُرى كيف كان الشأن زمن النبوة؟. "روى أبو حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى النبي فقضى بينهما، فقال الذي قُضي عليه: رُدّنا إلى عمر بن الخطاب، فأتيا إليه فقال الرجل: قضى لي رسول الله على هذا فقال رُدنا إلى عمر، فقال عمر: أكذلك؟ قال الثاني: نعم، قال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فخرج إليهما مُشتملاً سيفه فضرب الذي قال رُدنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فقال: يا رسول الله قتل عمر صاحبي، فقال (ص): ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن، فأنزل الله: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا» [النساء: 65].
لدينا هنا صحابيان صديقان مسلمان مؤمنان، اختلفا في مسألة ما، فذهبا يتقاضيان بمودة عند النبي، ورأى الذي حُكم ضده أنه لم يأخذ حقه، فطلب الاستئناف لدى عمر بن الخطاب، الذي ساءه الاستئناف فقتل الرجل، ذهب يشكو فقتلوه، وننزعج من شرطة بلادنا عندما يذهب ضعيف الشأن يشكو طالبًا حقه فيلبسوه قضية؟!، وفر الثاني راجعًا للنبي يشكو عمرًا مُلتاعًا على صاحبه، وعقب النبي أنه ما ظن أن عمر يقتل مؤمنًا، لكن لم توقع أي عقوبة على ابن الخطاب؛ ولحل المشكلة جاءت الآيات تؤكد أن على المسلم الرضى بما يقضي به النبي دون مراجعة ولا مناقشة، وهي الآية التي تُستخدم اليوم لتأكيد الاستسلام للقضاء والحكم بشرع الله، وألا نجد في أنفسنا حرجًا مما سيقضون به ونسلم تسليمًا!!، هذا بينما النبي نفسه قال في حديثه الصحيح: "إنكم لتختصمون إليّ وإنما أنا بشر مثلكم، وعسى أن يكون بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار، فليأخذها أو يتركها"، وهو ما يعني أن النبي نفسه قد يخطئ في تطبيق الشرع، وهو القاضي الأول في الإسلام، والعارف بالخبايا باتصاله بخبر السماء عبر جبريل، فما بالنا بإسلاميي اليوم؟!، كان النبي لا يجد حرجًا في الاعتراف بجواز خطأ أحكامه، وأن مسلمًا متمكنًا من اللحن والعرض المرتب لحجته يمكن أن يخدعه ليكسب قضيته؛ وهو مما لا يمكّن النبي من التأكد من عدالة أحكامه، تاركًا للمحكوم له أن يختار حسب ضميره، رغم أن ضميره هذا لم يمنعه من اللحن لكسب قضيته دون عدل؟ فهل يجوز مع هذا كله إطلاق الزعم بضمان الشريعة للعدل والأمن والسلام؟
ولا زال لنا قول بشأن القانون والشريعة.. يُتبع

ليست هناك تعليقات: