الاثنين، 16 يوليو 2012

خلصنا من المادة التانية ودخلنا عالتالتة!




 منير بشا
ي
من تبعات صعود الاسلاميين للحكم، بعد ثورة 25 يناير، 2011، ظهور تيار دينى قوى يسعى الى تحويل نظام الحكم فى مصر الى نظام الدولة الدينية الاسلامية الخالصة. وكان النظام السابق يلعب على جانبى هذه القضية الشائكة، فيتظاهر أمام أنصار الدولة الاسلامية فى الداخل انه يحكم بالدين، وأمام أنصار الدولة المدنية والعالم الخارجى انه يحكم بالعلمانية. وكان ترزية الدستور فى النظام السابق بارعين فى تفصيل موادا يمكن ان تفسر على الجانبين فى محاولة لارضاء جميع الأطراف. تغير هذا كله بعد ظهور أصوات عالية تنادى بالحكم طبقا للشريعة الاسلامية وادراج هذا فى الدستور بصراحة ووضوح لا يقبل التأويل.
يبدو ان هذه الاشكالية ستواجهنا عند صياغة الدستور الجديد اثناء مناقشة بنود الدستور القديم التى يمكن ان يجدوا فيها ثغرة تتيح لهم تأكيد مبدأ دينية الدولة. حدث هذا فى مناقشة البند الثانى من الدستور والذى ينص على ان "مبادىء الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع". الألف واللام فى "المصدر" قد أضفت على هذه المادة نوعا من التمييز على جميع المصادر الأخرى. والمعروف ان هذه قد أضافها الرئيس السادات كمساومة للتيار الاسلامى عندما أراد تمديد حكمه. وكانت هذه المادة سببا لمشاكل كثيرة لغير المسلمين عندما كان بعض القضاة المتشددين يستندون عليها لاقرار أحكام ظالمة ضدهم، مع ان الدستور قد كتب للمشرع، وليس للقاضى.
قبل غير المسلمين هذه المادة على مضض بعد ان قيل لهم ان الجو العام الآن لا يسمح بالمساس بها. ولكن من الناحية الأخرى وجدنا التيار الاسلامى يسعى لتغييرها لتصبح أكثر تشددا وكان هناك عدة اتجاهات أحدهما ينادى بحذف كلمة "مبادىء" لتصبح "الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع" والثانى استبدال كلمة "مبادىء" بكلمة "أحكام" لتصبح "أحكام الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع". وفى كلتا الحالتين كان المراد هو تطبيق الحدود الاسلامية ومنها قطع يد السارق وجلد السكير وقتل المرتد. وهى ردة الى الوراء 1400 سنة لا يقبلها أحد. ولكن كان المخرج من هذا المأزق هو تدخل فضيلة شيخ الازهر بابقاء المادة على ماهى عليه مع اضافة فقرة تفيد ان غير المسلمين يحتكمون لشرائعهم فى أحوالهم الشخصية وأيضا فقرة تقول ان حق تفسير هذه المادة من سلطة الأزهر وحده. وهذه الفقرة الأخيرة مع انها تبدو غير ضارة فى الوقت الحاضر لوجود رجال معتدلين فى الازهر يؤمنون بالدور العقيدى الوسطى، ولكن لا يعرف أحد ماذا سيأتى به المستقبل. كما انها تخلق ازدواجية بين مرجعية القضاء ومرجعية الأزهر.
ما كدنا ننتهى من مشكلة المادة الثانية من الدستور حتى اصبحنا نواجه المادة الثالثة. ونص المادة الحالى يقول "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين فى الدستور"
وهنا انبرى جيش الاسلاميين للاعتراض: كيف تكون السيادة للشعب وحده؟ ان الله (سبحانه وتعالى) صاحب السيادة الأوحد ولا يجب ان يشاركه فيها أحد.
خلفية تاريخية توضح أن حكاية السيادة للشعب وانه وحده مصدر السلطات لم يخترعها الدستور المصرى بل هى مبدأ للحكم جاء نتيجة قرون من الاستبداد والقمع فى أوروبا واصبح ركنا هاما من منظومة الديمقراطية الحديثة وارجاع السلطة من الحاكم للشعب ليصبح الشعب هو صاحب السلطة العليا. وكان الحاكم قديما يملك وحده حق السيادة، ثم انتقلت السيادة الى رجال الكنيسة. وفى سنة 1879 صدر اعلان حقوق الانسان الذى نص على أن السيادة هى للامة فاصبحت سلطة الحكم مستمدة من الشعب وبالتالى ظهرت فكرة الرقابة السياسية والقضائية لتصرفات السلطة التنفيذية. ومن ثم جاء مبدأ الفصل بين السلطات.
ولكن الاسلاميين المتشددين لا تعجبهم كلمة السيادة للشعب ويصرون ان السيادة هى لله. ويستندون فى هذا لقول القرآن " ان الحكم الا لله" (الأنعام 57 ويوسف 40) وقد أسىء فهم هذا النص واستعمل لتكفير النظم والحكومات والدعوة الى الخروج عليها واجازة قتلهم والاستيلاء على أموال الدولة، مبررين هذا كله بما أسموه مبدأ "الحاكمية لله".
الحقيقة ان أحدا لم ينكر أن الله هو الحاكم المطلق لهذا الكون ومن فيه. وهو ما يزال يحكم فى أمور الدنيا وكل شىء يتم بارادته وسلطانه. وهو ليس فقط الديان فى يوم الدين ولكنه الديان فى هذه الحياة ضد الأفراد والجماعات والشعوب سواء بالعقاب إن أخطأوا أو بالمجازاة إن أصابوا. ولكن على نطاق العلاقات البشرية فان الله قد فوض البشر ليختاروا من يتولى الحكم بينهم على أساس مبادئ عادلة لا تتعارض مع العدالة الالهية وان كانت قد تختلف فى نصوصها عما ورد فى الكتب المقدسة لأنها قضايا جديدة استحدثها العصر.
الله اذن هو الحاكم المطلق ولكنه يفوض من يشاء من البشر ليحكموا بين الناس. جاء فى سورة آل عمران 26 "قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء" وفى سفر الأمثال يقول "قلب الملك فى يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله" أم 21:1
واضح ان هناك محاولة لتغيير هذه المادة الثالثة لتحقيق هدف كما كان هناك هدف من محاولة تغيير المادة الثانية. الهدف ان يتم استغلالها لوضع نص يتيح للاسلاميين تحويل نظام الحكم الى نظام الدولة الدينية والحكم بالشريعة الاسلامية.
هذه المحاولة مكشوفة ومفضوحة فمعنى القول ان السيادة لله وحده انهم سيلغوا الدستور والقانون كله ويحيلوننا الى نصوص دينية يختلف عليها الناس ما بين مسيحى ومسلم بل وبين مسلم سنى ومسلم شيعى بل وبين اتباع المدارس الفقهية الأربعة فى المذهب السنى نفسه. فأى من هذه كلها هو الشرع الصحيح الذى يمثل شرع الله؟
ان الله تعالى قد حبا الانسان بالعقل وحرية الاختيارومن ثم تحمل مسئولية خياراته. وهو يريدنا ان نستعمل عقولنا ونجتهد لحل مشاكل عصرنا بما لا يخالف المبادىء الالهية العامة مثل العدل والحب والرحمة، وهو ينظر الينا من السماء ليراقب أدائنا. وسيكون لله الحكم النهائى ليس فقط على أعمالنا ولكن أيضا على أفكارنا ونياتنا.
ولن يستطيع انسان ان يهرب من قضاء الله العادل، حتى اولئك الذين يدعون انهم يمثلون الله على الأرض.


ليست هناك تعليقات: