الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

شهيدي الثورة الذين ماتا محروقين القلب في ذكرى وفاتهما


بقلم الكاهن بنيوت بسنتي جرجس
إسمحوا لى أحبائى عن أخرج عن المألوف ، وأكتب وفاءً لإبن بار من أبناء مصر ، فقد إعتدنا أن نقرأ لكاهن قبطى ما يكتب فى الروحيات والكنسيات .. إسمحوا لى أن أكتب فى شأن آخر ..


أكتب بلمسة وفاء للراحل الأصيل الفنان عمار الشريعى فى ذكراه الثانية ( ٧ ديسمبر ٢٠١٢ ) ، أكتب إليه وله كشهيد من شهداء ثورة يناير مع الفنان الساخر الصحفى جلال عامر ، فكلاهما مات كمداً وحزناً إثر أزمة قلبية حادة تأثراً بأحداث الثورة وقلقاً على مستقبل مصر ..

لا أنسى مقدار تأثرى بدموعه التى إنهمرت غزيزة وهو يجهش بالبكاء على شاشة برنامج ( العاشرة مساء ) يحكى بألم بالغ عن حادثة ما عرف إعلامياً ( بموقعة الجمل ) ، وبعدها بأيام سمعنا بالخبر الأليم إذ لم يحتمل قلبه الرقيق كَمّ ما أصاب البلاد من إضطراب ، ففاضت روحه شاهدة عن عظيم حبه لبلاده ، وكان قد سبقه إلى ذات المصير الصحفى جلال عامر لذات السبب وبنفس الظروف ، فإعتبرت كليهما شهيد ثورة ، لا بسفك الدم بل ( بحرقه ) ، إن جاز التعبير والمعنى .. !!

الراحل الفنان كان يحمل قلباً رقيقاً حرك أصابعه لتلعب لنا أرق الألحان وأعذبها ، وأثرى الموسيقى الشرقية بألحان كان أشدها شجناً هو صوت بكائه على وطن جريح يتقاتل أبناؤه فيمزقونه ، ومات الرجل دون أن يرى بعينى قلبه المكلوم نتائج ثورة مازلنا - نحن الأحياء - ننتظرها معه ونصلى من أجلها ..

هو المصرى الأصيل إبن الصعيد ، حرم نعمة البصر فتحدى الإعاقة بالنبوغ والتفاؤل ، فلم أراه إلا باسماً فاغر الفم بضحكة جميلة مع كل لحن - إلا فى يوم البكاء الشهير ما قُبيل رحيله ، وكأنه كان يدخر الدموع ويحبسها إلى أن يفجرها مع ثورة حبه لهذا الوطن الذى عشقه ..

هو من أبناء جيلى ، عاش طفولته فى الخمسينات من القرن الماضى ، وشب شبابه مع الستينات ، ومن يتذكر منا هذا الزمان يعرف كم عانت مصر مؤخراً ، وكيف جرم أبناؤها من المسؤولين والحكوميين - فى حقها فحولوها من قطعة من الجمال والكمال إلى التشوه البغيض الخليط بين القبح والتعصب المقيت ، وعندما أستمع إلى لحنه بالإنشودة الرائعة ( الحدود ) لا أستطيع أن أتحكم فى دموعى ، إذ أتفهم عمق دموعه هو ، وهو يضع اللحن من عصارة قلبه الحزين ( ملت على الشباك أخبى ، دمعة فرت مننا ) ..

هو إبن الفراعنة الذى لا يعرف المستحيل ، فإعاقته لم تمنع عنه نهم العلم وحب الحياة ، فدرس الإنجليزية وتخرج فى كلية الآداب جامعة عين شمس ، ودرس الموسيقى بالمراسلة ( تحدياً ) مع مدرسة بالولايات المتحدة الأمريكية ، ثم إلتحق بالأكاديمية البريطانية للموسيقى بعدها .. هو الرجل الذى لا يعرف الهزيمة ، ولم يهُزم إلا من حبه لمصر ، فوقع صريعاً فى معركة ثورة فارت فى قلبه قبل أن تفور وتثور بالميادين ..

ومع عشقه للموسيقى ، أحب رياضة السباحة وتفوق فيها .. ولهذا لم يجد عنواناً وإسماً أعمق فى دلالته من الإسم ( غواص فى بحر النغم ) ليكون عنواناً لبرنامجه الذى غصنا فيه معه تحليلاً لأعذب الألحان ، ورسم فيه بريشة خياله الواسع والخصب ، لوحاتً بألوان الطبيعة وسحر البحر وخفة الريح وصوت الحب ونبض القلوب ..

فى وجهه رأيت ( عرفاء ) الكنيسة المكفوفين ، ورأيت خلود الكنيسة وشموخ الوطن ، رأيت فيه المعلم " نعيم بطرس " الذى سلمنا الألحان الكنسية ، وتخيلتهما وقد تبادلا الأعواد فعزف عود عمار ( إبؤورو ) فإذا بفرعون يَهُم بهامته الفارهة الطول يدخل علينا القاعة فى موكب النصرة والسلام ، إنه لحن بعمر الفراعنة ، وبخلفية اللوحة سمعت عود المعلم نعيم يعزف فى حب مصر ، فإذا بالملك القدوس طفلاً مقمطاً بين ذراعى أمه والدة الإله تمتطى الدابة ( تقودها ) يد النجار الشيخ إلى أرض مصر فى رحلة باركت بقاعها ..

وصوت سماوى يهتف بلحن عود كليهما ( مبارك شعبى مصر ) ، فلا فرعون يرفعها أو يذلها ، ولا غزاة يرسمون خطوط مصيرها بل هو ضابط الكل بالكل فى الكل .. وهو الإله الذى باركها ولن يتركها أبداً ..

ليست هناك تعليقات: